الأربعاء، 13 مايو 2015

أخلاق شيعة أهل البيت عليهم السلام

أخلاق شيعة أهل البيت عليهم السلام



حدد الإمام الصادق عليه السلام في عشرات النصوص المواصفات التي ينبغي أن يكون عليها شيعته وأتباعه من خلال وصاياه وتوجيهاته وأحاديثه مع أصحابه معتبراً أن التشيع يمثل برنامج حياة متكامل كما يمثل الشخصية الإسلامية التي إذا عاشت في المجتمع كانت خيراً وبركة عليه وعلى الناس من حوله .

فقد ورد عنه عليه السلام أنه قال: "شيعتنا أهل الهدى، وأهل التقى، وأهل الخير، وأهل الإيمان، وأهل الفتح والظفر".

عن المفضل، عنه عليه السلام: "إياك والسفلة، فإنما شيعة علي عليه السلام من عف بطنه وفرجه، واشتد جهاده، وعمل لخالقه ورجا ثوابه وخاف عقابه، فإذا رأيت أولئك فأولئك شيعة جعفر".

وعن أبيه عليهما السلام: أنه قال لجابر بن عبد الله الأنصـاري " يا جابر أيكتفي من ينتحل التشيع أن يقول بحبنا أهل البيت، فوالله ما شيعتنا إلا من اتقى الله وأطاعه، وما كانوا يعرفون يا جابر، إلا بالتواضع والتخشع، والأمانة، وكثرة ذكر الله، والصوم الصلاة، والبر بالوالدين، والتعاهد للجيران من الفقراء، وأهل المسكنة، والغارمين، والأيتام، وصدق الحديث، وتلاوة القرآن، وكف الألسن عن الناس إلا من خير، وكانوا أمناء عشائرهم في الأشياء . قال جابر: فقلت: يا ابن رسول الله ما نعرف اليوم أحداً بهذه الصفة، فقال: يا جابر لا تذهبن بك المذاهب، حسب الرجل أن يقول: أحب علياً وأتولاه ثم لا يكون مع ذلك فعالاً ؟ فلو قال: إني احب رسول الله، فرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خير من علي عليه السلام، ثم لا يتبع سيرته ولا يعمل بسنته ما نفعه حبه إياه شيئاً، فاتقوا الله واعملوا لما عند الله، ليس بين الله وبين أحد قرابة، أحب العباد الى الله عز وجل (وأكرمهم عليه) أتقاهم وأعملهم بطاعته، يا جابر: والله ما يتقرب الى الله تبارك وتعالى إلا بالطاعة وما معنا براءة من النار، ولا على الله لأحد من حجة، من كان لله مطيعاً فهو لنا ولي، ومن كان لله عاصياً فهو لنا عدو، وما تنال ولايتنا إلا بالعمل والورع.

وعن أمير المؤمنين عليه السلام: "شيعتنا المتباذلون في ولايتنا المتحابون في مودتنا، المتزاورون في إحياء أمرنا، الذين إذا غضبوا لم يظلموا وإن رضوا لم يسرفوا، بركة على من جاوروا وسلم لمن خالطوا".
وأما ما ينبغي أن تكون عليه صورة الإنسان المنتسب لخط أهل البيت عليهم السلام في المجتمع وعلاقته مع الناس، فقد ورد عن أبي أسامة قال: سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول: "عليك بتقوى الله والورع والاجتهاد وصدق الحديث وأداء الأمانة، وحسن الخلق، وحسن الجوار، وكونوا دعاة إلى أنفسكم بغير ألسنتكم، وكونوا زيناً لنا ولا تكونوا شيناً علينا (أي عاراً)".

وعنه عليه السلام أنه قال: "كونوا دعاة للناس بغير ألسنتكم، ليروا منكم الورع والاجتهاد (أي الاجتهاد في العمل بطاعة الله) والصلاة والخير فإن ذلك داعية"، (أي يكون عملكم الحسن داعياً للناس للدخول فيما أنتم فيه من ولاية أهل البيت عليهم السلام).

كما ورد عن زيد الشحام أنه قال، قال لي أبو عبد الله عليه السلام: "اقرأ على من ترى أنه يطيعني منهم (أي من الشيعة) ويأخذ بقولي السلام، وأوصيكم بتقوى الله عز وجل والورع في دينكم والاجتهاد لله وصدق الحديث وأداء الأمانة، وطول السجود، وحسن الجوار، فبهذا جاء محمد صلى الله عليه وآله وسلم، أدوا الأمانة إلى من ائتمنكم عليها براً أو فاجراً، فإن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان يأمر بأداء الخيط والمخيط (أي الإبرة)، صِلوا عشائركم، واشهدوا جنائزهم، وعودوا مرضاهم، وأدّوا حقوقهم، فإن الرجل منكم إذا ورع في دينه وصدق الحديث، وأدّى الأمانة وحسن خلقه مع الناس قيل: هذا جعفريّ فيسرني ذلك ويدخل عليّ منه السرور وقيل هذا أدب جعفر، فوالله لقد حدّثني أبي عليه السلام أن الرجل كان يكون في القبيلة من شيعة علي (عليه السلام) فيكون زينها، أدّاهم للأمانة (أي أكثرهم وأحسنهم تأدية لها) وأقضاهم للحقوق، وأصدقهم للحديث، إليه وصاياهم وودائعهم، تسأل العشيرة عنه فتقول: من مثل فلان، إنه لأدّانا للأمانة وأصدقنا للحديث".

خدمة المؤمنين

خدمة المؤمنين

تمهيد

عن الإمام الصَّادق عليه السلام أنّه قال: "تنافسوا في المعروف لإخوانكم وكونوا من أهله, فإنّ للجنة باباً يقال له المعروف، لا يدخله إلّا من اصطنع المعروف في الحياة الدُّنيا, فإن العبد ليمشي في حاجة أخيه المؤمن فيوكّل الله به ملكين، واحداً عن يمينه وآخر عن شماله، يستغفران له ربّه ويدعوان بقضاء حاجته..."1.

خدمة النَّاس رحمة إلهيَّة
من النّعم الإلهيّة الكبرى أن يوفّق الإنسان للقيام بخدمة أو معروف اتجاه إخوانه, لأنَّه لو اطلع على ما أعدّه الله تعالى له من عطاء أبدي لا ينفذ لأدرك أنّ الأمر بالعكس، بمعنى أن المحتاج والمخدوم هو الّذي يسدي خدمة للخادم والباذل, لأنَّه السّبب في حصوله على هذه الهبة الرّبانيّة الفريدة، وعليه ليس من الصّواب أن تتاح فرصة لأحدنا بتقديم مساعدة للآخرين وقضاء حوائجهم فيفوِّت تلك الفرصة.

وبالواقع من يطرق بابك محتاجاً إلى معاونتك، فقد ساق رحمة الله تعالى، إليك، وينبغي أن تستبشر خيراً وتقابله بوجه ملؤه البسمة والانشراح، فإن قدرت على إجابته وتلبية طلبه كان زيادة في حسناتك وذخيرة ليوم معادك، ومن غير اللّائق استقباله بوجه عبوس ومنطق غليظ وأسلوب مهين، حتَّى مع العجز عن القيام بخدمته وإيصاله إلى مطلوبه، حيث لا يسوِّغ عدم القدرة على تلبية طلبه التّعامل السَّيِّئ معه، مع كونه سبباً من أسباب الرَّحمة كما في الحديث: "أيّما مؤمن أتى أخاه في حاجة، فإنما ذلك رحمة من الله ساقها إليه وسبّبها له، فإن قضى حاجته كان قد قبل الرَّحمة بقبولها, وإن ردّه عن حاجته وهو يقدر على قضائها، فإنّه رد عن نفسه رحمة من الله،ـ عزَّ وجلَّ, ساقها إليه وسبَّبها له، وذخر الله تلك الرَّحمة إلى يوم القيامة، حتّى يكون المردود عن حاجته هو الحاكم فيها، إن شاء صرفها إلى نفسه، وإن شاء صرفها إلى غيره..."2.

وفي الوصيَّة المتقدِّمة حدّثنا أمير المؤمنين عليه السلام عن الثَّواب الجزيل المعدّ لأهل المعروف, جزاء مشيهم وخطواتهم في حاجات إخوانهم مشيراً إلى الميدان الّذي فيه تكون هذه التّجارة الرَّابحة مع الله ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم في قوله عليه السلام: "من اصطنع المعروف في الحياة الدُّنيا". فعلينا اغتنام هذه الفرصة الثّمينة، وتزيين صفحات وجودنا بها، ولنا من الخالق،ـ سبحانه, خير الجزاء.

خدمة النَّاس هي خدمة الله‏
فيما جاء عن مولانا الصَّادق عليه السلام قوله: "من قضى لأخيه المسلم حاجة كان كمن خدم الله تعالى، عمره"3.

يكشف لنا هذا الحديث الشّريف عن عمق وحقيقة الخدمة الإنسانية مبيّناً أنّها خدمة إلهيّة طالما المراد بها وجه الله تعالى، ونيل رضاه، وإلّا لو كانت للتّباهي وكسب مودَّة أصحاب النُّفوذ والرياء يراد بها وجه الناس، فليس هناك شكّ في عدم اعتبارها خدمة للَّه تعالى وإنّما خدمة للنّاس بغية نيل مكانة لديهم أو الحصول على منصب من مناصب الدُّنيا الفانية. يقول الإمام الخمينيّ قدس سره: "ليهي‏ء الأحبّة الأعزّاء أنفسهم لخدمة الإسلام والشّعب المحروم وليشدوُّا الأحزمة لخدمة العباد الّتي تعني خدمة الله"4.

خدمة الناس أفضل الأعمال‏
والخدمة طالما كانت خالصة لوجه الله تعالى، فهي من أفضل الأعمال وأحبها إلى الله عزَّ وجلّ‏َ يقول الإمام الخميني قدس سره: "لا أظن أن هناك عبادة أفضل من خدمة المحرومين".

لقد كانت حياة الإمام قدس سره عامرة من بداياتها، إلى أن التحق بالملكوت الأعلى بخدمة المؤمنين والشعب المستضعف والعلماء والأصدقاء. ينقل بعضهم أن الإمام الخميني قدس سره بعد أن تشرّف بزيارة الإمام الرضا عليه السلام في إحدى المرّات كان يترك رفاقه في الحرم المشرّف يتعبدون إلى الصباح ويعود إلى المنزل لكي يهيى‏ء لهم الفطور ويشتري الخبز ويقوم بخدمات المنزل الذي نزلوا به وحينما سأله أحدهم: لماذا لم تبق أنت في الحرم المطهّر وتأمر أحدنا بأن يعود إلى المنزل ويقوم بتهيئة الطعام، يكون جوابه قدس سره: "لم يثبت عندي أن البقاء في حرم الإمام عليه السلام بعد الزيارة أفضل من خدمة المؤمنين"5.

ويحدثنا مولانا الصَّادق عليه السلام عن هذه الحقيقة التي شاهدناها في سلوك الإمام الخميني قدس سره وحياته العملية قائلاً: "لأن أمشي في حاجة أخ لي مسلم أحب إليّ من أن أعتق ألف نسمة وأحمل في سبيل الله على ألف فرس مسرجة ملجمة"6.

وفي حديث آخر: "قال الله عزَّ وجلّ: الخلق عيالي، فأحبهم إليّ ألطفهم بهم، وأسعاهم في حوائجهم"7.

ويحدّثنا مولانا الباقر عليه السلام عن مدى حبّه وتفضيله لخدمة المحرومين حيث يقول: "لأن أعول أهل بيت من المسلمين. أسدّ جوعتهم وأكسو عورتهم، فأكف وجوههم عن النَّاس أحبّ إليّ من أن أحج حجَّة وحجّة ومثلها ومثلها حتّى بلغ عشراً ومثلها ومثلها حتّى بلغ السَّبعين"8.

الثّمار الطّيّبة لخدمة النّاس‏
في روايات أهل البيت بيان كافٍ ووافٍ للآثار المترتَّبة على خدمة النّاس باختلاف أشكالها وأساليبها، حتّى ورد التَّفضيل في كلّ نوع من هذه الخدمات بما لها من ثمرات، من هذه الآثار:

1- الأمن يوم القيامة: روي عن مولانا الكاظم عليه السلام أنّه قال: "إنّ لله عباداً في الأرض يسعون في حوائج النّاس هم الآمنون يوم القيامة"9.

2- ألف ألف حسنة: عن الإمام الباقر عليه السلام أنّه قال: "من سعى في حاجة أخيه المسلم طلب وجه الله كتب الله له ألف ألف حسنة"10. نلاحظ هنا أن هذا الأثر الأخرويّ مترتِّب على السّعي حتّى وإن لم تقض الحاجة فلو بذل الإنسان وسعه وسعى ليقضي حاجة أخيه فلم يوفّق كان له هذا الأثر فكيف لو قضيت؟ وكذلك يشير هذا الحديث الشَّريف إلى مسألة طلب وجه الله تعالى بذلك لا طلب وجه الناس والدُّنيا.

3- ثواب عبادة تسعة آلاف سنة: عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنَّه قال: "من سعى في حاجة أخيه المؤمن فكأنّما عبد الله تسعة آلاف سنة، صائماً نهاره قائماً ليله"11.

4- كان الله في حاجته: عن الإمام الصَّادق عليه السلام أنّه قال: "من كان في حاجة أخيه المؤمن المسلم، كان الله في حاجته ما كان في حاجة أخيه"12.

5- استغفار الملائكة له: في الحديث عن الإمام الصَّادق عليه السلام: "إن العبد ليمشي في حاجة أخيه المؤمن، فيوكّل الله عزَّ وجلّ،‏ به ملكين: واحداً عن يمينه وآخر عن شماله، يستغفران له ربّه ويدعوان بقضاء حاجته"13.

6- ثواب المجاهدين: عن الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم أنّه قال: "من مشى في عون أخيه ومنفعته فله ثواب المجاهدين في سبيل الله"14.

7- ثواب السعي بين الصفا والمروة: عن الإمام الصَّادق عليه السلام أنّه قال: "الماشي في حاجة أخيه كالساعي بين الصفا والمروة"15.

8- كمن عبد الله دهره: عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنّه قال: "من قضى لأخيه المؤمن حاجة كان كمن عبد الله دهره"16.

9- الفوز بالجنة: عن الإمام الصَّادق عليه السلام أنّه قال: "ما قضى مسلم لمسلم حاجة إلا ناداه الله تبارك وتعالى: عليّ ثوابك، ولا أرضى لك بدون الجنة"17.

10- تهون عليه سكرات الموت وأهوال القبر: في الحديث عن الإمام الصَّادق عليه السلام: "من كسا أخاه كسوة شتاء أو صيف كان حقاً على الله أن يكسوه من ثياب الجنة، وأن يهوّن عليه سكرات الموت، وأن يوسّع عليه قبره، وأن يلقى الملائكة إذا خرج من قبره بالبشرى"18.

11- قبول الأعمال: عن مولانا الكاظم عليه السلام أنّه قال: "إن خواتيم أعمالكم قضاء حوائج إخوانكم والإحسان إليهم ما قدرتم وإلا لم يقبل منكم عمل"19.
* كتاب منار الهدى، نشر جمعية المعارف الإسلامية الثقافية.

1- الكافي، ج 2، ص 195.
2- الكافي، ج 2، ص 193.
3- العلّامة الحلّي، الرسالة السعديّة، تحقيق: السَّيّد المرعشيّ بقّال، ط 1، المكتبة العامة لآية الله العظمى مرعشيّ نجفي، 1410هـ، ص 162.
4- خدمة الناس في فكر الإمام الخميني، إعداد: مركز الإمام الخميني، ط 1، لا. م، مركز الإمام الخميني الثّقافي، 1429هـ 2008م، ص 12.
5- مجلّة بقية الله، العدد 140، ص 43.
6- الكافي، ج 2، ص 197.
7- الكافي، ج 2، ص 194.
8- م. ن، ج 2، ص 195.
9- م. ن، ص 197.
10- م. ن.
11- البحار، ج 71، ص 315.
12- م. ن، ص 286.
13- الكافي، ج 2، ص 195.
14- ثواب الأعمال، ص 288.
15- بحار الأنوار، ج 75، ص 281.
16- وسائل الشيعة، ج 16، ص 36.
17- الكافي، ج 2، ص 194.
18- الكافي، ج 2، ص 204.
19- بحار الأنوار، ج 72، ص 79.



النبي أيوب عليه السلام

النبي أيوب عليه السلام


حديث أملاك
كان هذا حديث ملائكة في ملئهم الأعلى:
- لله هذا العبدُ الصَّالحُ، أيوبُ..

لقد أنعمَ الله عليه بالأموال الكثيرة، من قطعان إبل، وخيلٍ، وشياهٍ، وأُتُنٍ، تسرحُ في الفلاة ترعى، فتغطّ لكثرتها، الفلاة..

وتموج باعدادها الوهاد والهضابُ..

وعبيدٌ كثيرون يقومون برعايتها، والعناية بها.. وخدمٌ عديدون، يروحون، ويجيئون!..

ومع ذلك، فلم تُبطر النّعمةُ أيوب، ولم يبخل بما آتاه الله..

فبابه مفتوحٌ للرائحين والغادين ويده مبسوطةٌ تعطي بلا كدرٍ (أي: منٍّ) ولا حسابٍ!.. لم يطرقه سائل إلاّ أغناه،.. ولم يقصده محتاجٌ إلاّ كفاه!..

شعاره: مال الله لعبيد الله.. وما جعلني الله على هذا المال إلاّ قيّما، لا مالكاً له، ولا خازناً!.. إنّه أمانة عندي أؤديها إلى خلقه.. وليس لي في ذلك كلِّه حولٌ ولاطول، بل، بحولِ الله وقوّته، يتمُّ ذلك، ويكون!..

فتبارك الله: ماأطيبَ نفسَه، وأجملَ خُلُقَه، وأسمحَ يده!..

ويُردِفُ ملاكٌ آخرُ:
- وكان من تمام النّعمة عليه، أن رزقه الله أولاداً.. فكانوا سبع بناتٍ، ومثلهم من البنين!. فهم له قُرّةُ عينٍ، وعونٌ على المعروف يسديه، والإحسان يؤدّيه..

يراهم، بين يديه، كراماً بررةً، فيحمد الله ويشكرهُ على ماحباه من ولد صالحٍ!.. ويخاف عليهم الزّيغ، والعُجب، والتّكبُّر.. فيدهوهم إلى مراقبة الله في كل خطوةٍ، ومقالٍ، ويذكّرهم بأنّ عين الله ترى، وبأنه يعلم السرَّ وأخفى!.. ويطيبُ بهم خاطراً، وقد انتهجوا سبيل الهدى والرّشاد.. فيسجد لله شاكراً له وافرَ النّعماء، والحُسنى!..

ويتابع ملاك ثالث:
- وكان أن زاده الله من فضله، بأن رزقه صحّةً وفتُوَّةً.. فشبابه يتفجّرُ بالعزم والعافية..

وشكرَ الله أيوبُ، بأن اتّخذ من شبابه وسيلةً لمرضاة الله، وسبيلاً لطاعته، صارفاً ماعمر الله جسده من طاقةٍ، في سبيل الخير والإحسان،.. وإعانة الضعيف، وإغاثة المحتاج، آخذاً بيد هذا، مسدّداً خطو ذاك، فلم يعرف الكبرُ إلى نفسه سبيلاً، ولم تأخذه العزّة بما حباهُ الله من قوّةٍ. فقوّته من الله، وإليه..

ويتّفقون فيما بينهم:
ليس على وجه الأرض، عبدٌ، كأيوبَ، صالحٌ..
إنه نعمُ العبد،.. إنه أوّاب!..
وكان إبليسُ -يحيط به بعضُ أتباعهِ وجنده- قريباً من السّماء، يسترقُ السَّمع، فيسمع تحادث الأملاك، فيعجب من أيوب غاية العجب، ويقول في نفسه:
- يظهرُ أن زينة الدنيا، وبهرجها، وزُخرفها، لم تطغ أيوب، ولم تستطع إغواءه، فهلاَّ ابتلاه الله؟..
فمِمّا لاشكّ فيه أنّ زوال النِّعمة عن الإنسان، داعيةٌ للكفران بعد الإيمان!..

ابتلاء أيوب في ماله
ويرفعُ إبليس رأسه هاتفاً:
- إي ربَّ!.. لقد أعطيت أيّوبَ مالاً لاتغيبُ عنه الشّمسُ.. فلو قضى عمره في سجدةٍ واحدةٍ لك، لم يوفّك حقّك في ما حبوته إياه.. فهلاّ ابتليته في ماله؟.. وأصبته في ثروته؟.. إذاً، وحقّك، لتغيّر، وفترت عبادتُه، وقلّت طاعتُه، وانقطع إحسانُه..

ويأتيه الجوابُ من علِ:
- عبدي أيوب لم تُبطرهُ النّعمةُ حتى يجزع من النّقمة،.. فاصنع، وجندَك، ما بدا لك في أمواله،.. قد أبَحنا لك ذلك، وسترى، بعد ذلك، صدق عبادة عبدي الصَّالح أيوب!..

وينطلق إبليس وجندُه إلى مال أيوب، وقد انتشر في البراري والفلوات إبلاً، وخيلاً، وشياهاً، وأتُناً، حتى غطّى وجه الأرض،.. وينقضُّون عليها، فإذا هي مجندلةٌ، على وجه الأرض، صرعى!.
وارتاع الرُّعاة لما رأوا..
وأخذهم العجبُ من هذا الوباء الوبيل الذي فتك بالقُطعان هذا الفتك الذّريع!..
وانطلقوا إلى سيّدهم أيوب، مهرولين، صائحين.. وأخبروه بمآل أمواله..
فأجابهم- وقد افترَّ ثغرُه عن ابتسامةٍ-: لا عليكم!.. مالُ الله، يفعلُ الله به مايشاء!..
وقعد أيوبُ في بيته، وكأنَّ شيئاً لم يكن!..
فلم تَفُتَّ في عزمه المصيبةُ، وقد تحوّل بين عشيّة وضُحاها من ثريٍّ كبيرٍ إلى مسكينٍ فقيرٍ،..
بل حمد الله على ما أصابه، كما كان يحمدُه على ما أعطاه!..

وظهر إبليسُ لأيوب، في هيئة شيخٍ حكيم، قد عجمت عودة الأيام (كناية عن تجاربه الكثيرة) وحنّكته التّحاريب.. فسلّم على أيُّوب بوفارٍ، وقال له:
- مافعل الله بك ياعبد الله؟..
فأجابه:- إنه الله الفعّالُ لما يريدُ!.
- أرأيت لو كان الله أثابك على ما دأبت عليه من الصّلاة وأعمال البرّ لما أصابك في مالك ما أصابك!.
- صه!.. أيها الشيخُ.. إنما تنطق بلسان الشَّيطان..
وخرَّ إبليس إليه، وهو كذلك، فقال في نفسه:
- واحسرتاه، سجدَ فرَشد، وأبيتُ فغويتُ!..
ثم تولّى على عقبيه، ندمان، حسران، خزيان!..
وهكذا لم يهن أيوبُ أمام مصيبته في ماله، بل تماسك، وتجلّد، صابراً محتسباً، ولم يفتُر لسانه عن تسبيح الله، وشكره على آلائه (أي: نعمة)، أبداً..

ابتلاء أيوب في أولاده وخدمهواتّجه إبليسُ بنظره إلى السّماء، هاتفاً من جديد:
- إي ربِّ!.. لقد أصبتَ أيوبَ في ماله، فما انفكَّ عن ذكرك وما انقطع عن شكرك، وما ذلك، إلاّ لأن بين يديه أولاداً كثُراً، من بنين وبناتٍ، يفعلون بأمره، ويقومون بما يريد.. بالإضافة إلى خدم كثيرين، طوع إشارته.. فهم عُدّته إذا اشتدَّ الزمان، وعضّته المصيبة.. فهلاً ابتليته في من حوله من خدمٍ وأولاد؟.
ويأتيه النداء من فجاج الغيب:
- أنا الله السميع البصير، الخبيرُ بعبدي الصّالحِ أيوب، الذي لا يعرفُ الجزعُ إلى قلبه سبيلاً..
فأجلب على من عنده من أولادٍ وخدمٍ، بخيلك ورجلك، باستثناء زوجه "ليا".. واصنع ما بدا لك!..

وهبَّ إبليس، وبعضُ جنده من المردةِ العُتاة، والشياطين العصاة، يتربصون بأبناء أيوب، وخدمه، الدّوائر..
وماهي إلاّ سويعات، حتى أخذ أولادُ أيوب، والخدمُ، يتوافدون إلى القصر، للاجتماع فيه، وتمضيه جزء من النّهار، وتناول طعام الغداء، معاً..
وانتظر إبليسُ، ومن معه، حتى تكامل عقد المتوافدين، وتمَّ عددهم،..
وبينما هم كذلك..
وإذ بإبليس وجنده ينقضُّون على أسس القطر، وركائز أعمدته، فيزلزلونها زلزالاً شديداً،.. وماهي إلاّ لحظات، حتى تهاوى القصر على من فيه وتحوّل إلى ركامٍ وأنقاضٍ!..
وعلت الصّرخةُ..
وسُحبت الجثثُ من تحت الأنقاض أشلاءً، أشلاء..
وأتى الصّارخُ أيوب -وكان عنهم بعيداً-:
-:هلُمَّ يا أيوبُ.. لقد تداعى القصرُ على أبنائك وخدمك المجتمعين فيه.. فهم جميعاً، صرعى!..
عظَّم الله أجرك فيهم، جميعاً!..
ولم يصرخ أيوب.. ولم يجزع، ولكنه أطرق إلى الأرض قليلاً، وقد سالت على خدَّيه دمعة حرّى، أخذ يكفكفها بطرف كمِّه وهو يقول:
إنّا لله، وإنّا إليه راجعون!.
وصرخت زوجَه ليا بنت يعقوب النبي، وولولت، وانتحبت.. فدعاها أيوبُ إلى التَّصبُّر،.. فما لبنات أنبياء نبي إسرائيل، والجزع؟..
وعاد أيوبُ إلى منزله، بعد ساعةٍ،.. بعد أن شيَّع أولاده وخدمه جميعاً إلى مثواهم الأخير.. وهو ما يزال يذكرُ الله ذكراً كثيراً..
ولم يبق له من الدّنيا إلاّ هذه المرأةُ الصالحةُ، التي طفح وجهُها بالحزن والأسى..

وأتاه إبليس في زي شيخ وقورٍ، معزِّياً،... فالكلُّ إلى زوالٍ!..
والتفت الشيخ إلى إيوب، وكأنه يتساءل، موسوساً:
- تُرى، ...أما كان لصلاتك، وشدة تعبُّدك لله، أن يدفعا عنك هذا المُصابَ الجلل، والرُّزء الفادح؟..
أعانك الله على ما أنت فيه من الأمور العظام، والخطوب الجسام!.. ثم،.. أإلى هذا الحدِّ يتخلَّى الله عند عبده المؤمن الذي لايفتُرُ عن ذكره، في قيامٍ وفي قعودٍ، وفي جيئةٍ وفي ذهاب!..
ورمقهُ أيوب بنظرةٍ شزْرٍ، كملتهب الشّرر:
- إليك عني أيها الشيخ.. هلاَّ ذكرت الله في قولِك؟
وهل كان مالي إلاّ وديعةً استودعنيها الله؟
وهل كان أولادي إلاّ عاريةً (أي: وديعة) مستردَّة؟
فمن حقِّ الله المعطي، أن يستردَّ ماشاء متى شاء!..
ويخرُّ أيوبُ ساجداً لله، وهو يتمتم: -ربِّ.. لك الحمدُ والشكرُ، في الضرّاء، كما في السرّاء!..
فتولى عنه إبليس مغيظاً، محنقاً، وهو يكاد يتميَّزُ غيظاً!..
وأخذ إبليس يقلِّب كفيهِ..
فمن أين يأتي أيوب؟..

ابتلاء أيوب في بدنِهوانتبه إلى صحة أيوب وما لهُ من نشاطٍ جمٍّ..
فأيوب ممتلئ الجسم صحةً وعافيةً.. له جسمُ الرِّجال الرِّجال، وعزمُهم الشديد!..
فتوجَّه إلى السماء قائلاً: - إي ربِّ.. لقد سلبتَ أيوبَ أمواله كلّها، فما لانت له قناةٌ، ولاوهنت له عزيمةٌ.. وحرمته أولاده وخدمه أجمعين، فما كان ذلك ليؤثر عليه من قريبٍ أو من بعيدٍ..
وإني أراه معتمداً على قوَّته، معتداً بفتوته.. فهو فارع الطُّولٍ، متينُه، عريضُ المنكبين، شديدُهما؛ مفتولُ السّاعدين، قويُّهما..
فهلاّ ابتليته في جسده وصحته، وأصبتَه في قوته وهمَّتِه؟..
ويأتيه الجوابُ من علٍ: إنَّ عبدي أيوبَ نِعم العبدُ الصَّابرُ على ما يصيبُه..
لقد سلطتك على جسده، وأبحتك بدنه، فأجمع له ما استطعت من أمرك، وكد لهُ ما شئت من كيدك، فما أمرُك إلاّ في ثباتٍ!..

ويكرُّ إبليس وجندُه، على أيوب الفرد، الصِّفرِ اليدين، ويأتونه من كل جانبٍ، وينفخون في جسده من خبيثِ أنفاسِهم، فيقعُ عليلاً، منهوك القوى.. وتنتشر في بدنه العِللُ والأمراض، فيمتلئ قروحاً وجروحاً ملتهبات!.
ويبقى على هذا الحال سنين.. وتُبرِّحُ به الأوجاعُ والآلام، والعِللُ والأسقامُ.. ولا من طبيب، ولا من دواءٍ؟.. وهكذا أصبح بدنهُ مرتعاً لكلِّ علَّةٍ، ومسرحاً لكلِّ داءٍ خبيثٍ!..
ويعودُه بعضُ النَّاس..
- ما تشكو يا أيوب؟.
- إلى الله أبثُّ شكواي ونجواي، وهو وحدّه الخبيرُ بما أنا فيه..
وسرعانَ ما ينفض عنه الناس، ويتحامونه.. فريحُهُ كريهٌ، لا يُحتمّل،.. ومنظرُ جسده يبعث على الغثيانِ!..
ويودِّعونه، ويودعون زوجَهُ ليا بنت النبي يعقوب، التي كانت تتعهَّدُهُ، بعطفٍ وحنانٍ، وتقومُ على خدمتِه خيرَ قيامٍ!..
وأخيراً انقطع عنه الناسُ، وتحاشَوا لقاءه، وتجنَّبوا عيادته.. إذ قد امتدّت به المحنةُ، وأصابهُ الجهدُ، وأوغل في عروقه ومفاصله الدّاءُ العُضالُ..
وكان أيوب يعاني ذلك كلّه معاناة الصّابرين المحتسبين.
وظلّ، كعادته، منشغلاً بالله عمّن سواه من العالمين.. شاكراً إياه على كلِّ حال!..

أما إبليسُ فكان يرى ذلك كلَّه، فيشتدُّ غيظاً، ويستعِرُ حنَقاً،.. ويدمدم: لم أرَ في حياتي رجلاً مبتلىً كلَّ بلاءٍ، يصبُر، كأيوب!..
ويجمع حوله رهطاً من جنوده،..
- مالعملُ، بعدما رأيتم من أمر أيوب؟.
- لقد أُسقط في أيدينا (كنايةً عن العجز) بعدما رأينا أيوب يصبر هذا الصبر الذي لا حدود له..
- حقاً إن صبرَ إيوب لعجيبٌ.. لقد ابتُليَ البلاءَ تلو البلاء، لو أصاب بعضُها الجبال لدكَّها..
- إنه ليحزنني أن نفشلً كلُّنا في هذا الأمر، وقد نجحنا في ماهو أشدَّ منه، وأدهى..
- ولكن، قال لي، سيدنا،.. كيف أخرجت آدم من الجنَّة؟.
- بواسطة زوجه حوَّاءَ..
- إذاً، فلنحاول جُهدَنا، أن نأتيَ أيوبَ من قِبَلِ زوجِه ليا..
- وهو ما تقولُ..
وينصرفون..

إبليس وزوج أيوبوفي الصباح الباكر، يظهر إبليسُ لزوج أيُّوبَ، ليا، بصورة طبيب..
ويسألها عن زوجِها..
فتجيب: لا هو حيٌّ فيُرجَى، ولا ميِّتٌ فيُعزَّى به..
وتدعوه لمداواة أيوب..
فيجيبها: أداويه، ضامناً شفاءه ممَّا يكابدُ من داءٍ وسقمٍ، ولكن بشرط، لا أريد جزاءً سواه..
قالت: وما هو؟
قال: أداويه.. على أنه إذا برئ، يقول لي: أنتَ شَفيتَني!..
قالت: نعم!..
وأسرعت ليا إلى أيوب، قائلةً له، وكأنها تستَرحِمُه:
- يا أيوب.. لقد طال مرضُك، وامتدَّت معاناتك،.. وهذا طبيب يزعم أنه يشفيك من كلِّ ما تعاني منه، من أوصابٍ وأسقام!..
- عليَّ به، ياليا..
- ولكنه أخذ عليَّ عهداً، واشترطَ شرطاً..
- ما يقول؟..
- يقول: إنه يداويك، فإذا برئت تقول له: أنتَ شفيتني.. لا يريد جزاءً سواه..
ويحتقن وجهُ أيوب، فبدا رهيباً،.. ويصرخ بوجهها كالملسوعِ:
- أغربي عن وجهي.. قبَّحَ الله ما ترين..
أولم تسمعي قول جدِّك إبراهيم خليل الرَّحمن:
﴿الّذي خلقني فهو يهدين. والّذي هو يُطعمني ويسقين. وإذا مرضتُ فهو يشفين. والّذي يُميتني ثمَّ يُحيين﴾...
ويتابع قوله لها بصوتٍ هدَّار، وهو يتوعدها بأليم العِقاب:
- والله، إن منَّ الله عليَّ بالسّلامة ممّا ابتلاني به، لأجلدنَّك مائة جلدةٍ جزاء ما نفث الشيطانُ على لسانك، وما وسوس لك به إبليسُ، مزيِّناً لك الكفرَ بالله، والشِّرك بعبادته..
وتنصرف ليا من أمام وجه زوجها الذي اشتعل غضباً..
وترى الطبيب، وكأنه كان يسمعُ تحاوُرَهما،.. فما أن رآها عائدة، مكسوفةً، حتى نكَصَ على عقبيهِ، وتولَّى عنها، مدمدماً، غضِباً..
وماهي إلاّ ساعة، حتى تعود ليا لما فُطِرَت عليه من إيمان، فتستغفر الله، وتعتذرُ إلى زوجِها، وقد رقَّ قلبُها له، فهي لا تبغي من وراء ذلك كلِّه إلا شفاءه..
وتتودَّد إليه، وتتلطَّف، وتتعطَّف، فيُقبل عليها بوجهه،..
وتنظر إليه باهتمام عطوف، وحدبٍ حانٍ، وقد ترقرقت في عينيها جمعة، وتقول له، برقَّةٍ، وكأنَّها تهمسُ في أذنه:
- ما عهدتُك، يا أيوبُ، إلاّ صبوراً على الشَّدائدِ، جلداً على الأحداث والمِحَن.. وقد اصطفاك الله، من بين قومِك، نبياً،..
فهلاَّ سألتَ الله أن يمسَحَ ضُرَّكَ، ويكشفَ عنك هذا البلاءَ، ويُنقِذكَ من لُجَج هذه الأسقام؟
إني لأراه، إن فعلتَ، استجابَ!..
- وكم مضى عليَّ في مرضي ياليا؟..
- سبعُ سنين..
- وكم مضى عليَّ، قبلَ ذلك، من عمري الذي عشته معكِ، في نعمة عيشٍ وارفٍ، ودعةِ بحبوحةٍ، ورغد..؟..
- ثمانون..
- إني لأستحيي من الله، أن أسألَه كشفَ مابي من البأساء، ولم أصبر، بعدُ، على معشارَ ما حباني به من النَّعماء..
وتنصرف ليا شاردة النظرات..
وينطل أيوب يمجِّد الله، ويسبِّحه، ويقدِّسه، ويشكره، كثيراً..

بُرْءُ أيوبوتجرُّ أيوبَ قدماه بجهدٍ، وإعياءٍ، شديدين، إلى ظاهر بيته، في البريَّةِ، يُسَرِّح نظره في الآفاق، وقد اكتست الطبيعة حلةً خضراء خضراء.. مرصَّعةً بالزهر من كلِّ لونٍ.. ويأخذ مجلسه على التراب النديِّ، فتباركَ الله أحسن الخالقين..
هناك: ﴿نادى ربَّه أني مسّنيَ الضُّرُّ وأنتَ أرحمُ الراحمينَ
وألقى في روعِ الملتلى الصابر: أن اضرب بقدمِكَ الأرض.. ففعل.. فانفجرت منها عين ماءٍ دافقة، وقيل: بل نبعت عينان:
فاغتسل في إحداهما، وشرب من الأخرى..
وتمطَّى قليلاً، وتثاءب.. وكأنّه فُكَّ من عِقال..
ونظر إلى جسده، فإذا به قد عوفي من كلِّ داءٍ وسقم..
وإلى فتوته.. فإذا هو بعزيمةِ إيّام الشباب!..أيتم
فأسرع إلى منزله، وهو يكبِّر الله، ويحمده، وارتدى ثياباً كان قد خلعها منذ سنوات..
ولما عادت زوجه إلى البيت، ارتاعت.. ففي البيت رجلٌ غريب..
وحدَّقت النَّظر فيه مليَّاً، فناداها، .. فعرفته من صوته.. إنه زوجها أيوب..
فصرخت فرحاً، وقد ملأت عليها المفاجأة المذهلةُ كلَّ وجدانها.. وأسرعت إلى زوجها تعانق خدَّيه الملتمعين بالعزم، ورواء العافية.. إنها لتكاد تطير فرحاً.. فسبحان من يحيي العظام وهي رميم!..
وغفر الله لها زلَّة لسانها، في موقف ضعفٍ، جزاءَ حسنِ تعهُّدها أمور زوجها في الشَّدائد المهلكات..
وأوحى الله تعالى إلى أيوب: أن أجمع حزمةً من شماريخ العشب، وقضبانه الهشَّةِ، تبلغ مئةً، واضرب بها زوجك ليا، ضربةً ليِّنةً واحدةً، تبرَّ يمينُكَ.. ففعل!..
وشاء الله تعالى إلاّ أن سكاف أيوب بمزيد من الحسنى، ويجزيه الجزاء الأوفى.. فأحيا له جميعَ من هلَك من ولده وخدمه، ومثلَهم معهم، ممن كانوا قبل البليَّة وخلالها وأعاد له جميع ما فقد من مالٍ، مضاعفاً، مباركاً.. تكرماً منه وتحنُّناً.. وتذكرةً وموعظةً لأولي الألباب!..
ويذكر الله الصابرين الذين يزيدهم من فضله، ويوفيهم أجورهم بأحسن ماعملوا، بأن لهم عقبى الدار..
ويذكر الناسُ الصّابرين، فيقولون: صبرٌ.. ولا صبرُ أيوبَ!..

* جمعية القرآن الكريم للتوجيه والإرشاد - لبنان.